فصل: مطلب في الصّلح ومراعاة العدل بين الطّرفين من قبل المصلحين والسّخرية والظّن والتجسس والغيبة والشّعوب وتفرعاتها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فلا تعد ولا تحصى عجائبها ** ولا تسأم على الإكثار بالسأم

يريد أن آيات اللّه تعالى لا توصف بالملل ومهما كررتها تزداد رغبة فيها على حد قوله:
يزيدك وجهه حسنا ** إذا ما زدته نظرا

{وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ} وهذه الجملة فيها من محسنات البديع المقابلة على حد قوله:
ما أحسن الدّين والدّنيا إذا اجتمعا ** وأقبح الكفر والإفلاس في الرّجل

لأنه قابل كره بحبّب، وزيّن، والفسوق والعصيان بالإيمان، وهذه الكلمات الثلاث جاءت بمقابلة الإيمان الكامل وهو ما اجتمع فيه ثلاثة أمور تصديق بالجنان وإقرار باللسان وعمل بالأركان فذكر جل ذكره بمقابله حبب إلخ.
وهو التصديق بالجنان، وذكر الفسوق الجامع لأنواع الكذب وغيره بمقابلة الإقرار باللسان وذكر العصيان بمقابلة العمل بالأركان، وعليه البيت قابل ما أحسن بقوله وأقبح، والدّين بالكفر والدّنيا بالإفلاس، لأن علم البديع كغيره من العلوم التي أخذت من القرآن العظيم فهو أصل لجميعها وهي فرع عنه قال تعالى: {أُولئِكَ} الّذين حبب إليهم الإيمان فأحبوه وتمسكوا به فتغلغل في قلوبهم {هُمُ الرَّاشِدُونَ} المهتدون إلى الأعمال الحسنة والأخلاق الكريمة الّذين يطيعون أوامر اللّه ورسوله ولا يقفون أمام أمره كخالد بن الوليد رضي اللّه عنه إذا تلقى أمر الرّسول برحابة صدره وذهب إلى القوم فوجدهم على غير ما عزي لهم فحقن اللّه دماهم وصان أصحاب الرسول من الوقيعة في إثم قتالهم لأنهم راسخون على إيمانهم وأن خروجهم لم يكن كما زعم الوليد بل احتراما لرسول اللّه الذي أرسله إليهم وتكريما له فكان تحبب الإيمان الذي منه التأني والتروي في الأمور وتكريه الكفر الذي فيه العجلة والمسارعة {فَضْلًا مِنَ اللَّهِ} لكم أيها المؤمنون {وَنِعْمَةً} عليكم زائدة على نعمه في تحسين أخلاقكم وتهذيب آدابكم وخيرا كثيرا وأدبا كريما {وَاللَّهُ عَلِيمٌ} بما بينهما من التفاضل العظيم {حَكِيمٌ} فيما يفعل من تفضيل أناس على آخرين كما هو حكيم في جميع أفعاله وفي جملة تأديب اللّه تعالى نفوس عباده وتهذيبها قوله جل قوله: {وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} جمع الضّمير باعتبار معنى الطائفتين على حد قوله تعالى: {فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ} الآية 41 من سورة النمل ج 1 ولبحثها صلة في الآية 26 من سورة النّور المارة وما ترشدك اليه من المواضع.

.مطلب في الصّلح ومراعاة العدل بين الطّرفين من قبل المصلحين والسّخرية والظّن والتجسس والغيبة والشّعوب وتفرعاتها:

ثم أمرهم جل أمره بما هو من شأن المؤمن وحق المسلم على المسلم بقوله: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما} أيها المؤمنون لأنّ في قتالهما نقصا من عددكم وإثارة لغرس العداوة فيكم والبغضاء التي يتوارثها الأبناء عن الآباء بينكم {فَإِنْ بَغَتْ} تعدت واستطالت {إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى} فلم تنتصح ولم تقبل الصّلح وأصرت على بغيها ومواصلة عداوتها {فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} يا أيها الحكام وأديموا مقاتلتكم لها {حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ} وترجع عن غيها وتسلم لما في كتاب اللّه الموجود بأيديكم من الصّلح وإزالة الشّحناء وقطع مادة البغض {فَإِنْ فاءَتْ} عدلت ورجعت عن مواصلة العداء وجنحت للسلم {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ} الذي يحملها على الإنصاف والرّضى بحكم اللّه، ولا تكتفوا بمجرد متاركتهما القتال لئلا يكون بينهما قتال آخر، لأن القتال الصّحيح يزبل حزار الصّدور ويمحو مادة الحقد، وإنما قيد الصّلح بالعدل ليعلم أنه بعد خضوعهما لحكم اللّه لا يجوز أن يميل المصلحون عليهما أو على أحداهما بسبب عدم قبولهما الصّلح مبدئيا، لأن تسليمها لأمر اللّه أزال ذلك وأوجب أن تعامل مع الفرقة المقابلة لها معاملة حقية متساوية، ولهذا أكد اللّه تعالى تلك الجملة بقوله: {وَأَقْسِطُوا} أيها الحكام وولاة الأمور والمتوسطون بين النّاس بالصلح بينهما ولا يحملنكم عدم الرّضاء بالصلح أولا أن تحيفوا بهم أو تجوروا عليهم بل يجب عليكم أن تمحوا ذلك من صدوركم ولا تتحظروه بقلوبكم {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} في أحكامهم وأقوالهم وأعمالهم وسائر أمورهم.
واعلم أن فعل أقسط ضد فعل قسط راجع الآية 23 من سورة الجن في ج 1 ثم بين المادة الموجبة للعدل بقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} في الدّين والولاية لا فضل لأحد على أحد إلّا بالتقوى فإذا تنازع هؤلاء الاخوة {فَأَصْلِحُوا} أيها الاخوان المؤمنون {بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} المختلفين وهذه الجملة تقرير للأمر بالصلح بين المتقاتلين ثم أكد تحذيرهم من الميل لطرف دون آخر بقوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ} أن ترجحوا أناسا على آخرين ولو كانوا أولي قربى منكم وأحسنوا نيتكم بالإصلاح بين النّاس كلهم وعاملوهم سواسية {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (10) من قبل اللّه فتنالوا رحمته الواسعة التي حملتكم على التدخل بالإصلاح بين إخوانكم رحمة بكم وبهم من أن يتجاوز أحدهما على الآخر أو يأخذ ماله بغير وجه شرعي لأن الجزاء من جنس العمل.
أخرج به جرير عن السّدى قال:
كان رجل من الأنصار يقال له عمران تحته امرأة يقال لها أم زيد، فأرادت أن تزور أهلها، فحبسها في علية، فبعثت إلى أهلها فجاء قومها فأنزلوها لينطلقوا بها، وكان الرّجل قد خرج فاستعان بأهله، فجاء بنو عمهم ليحولوا بين المرأة وأهلها فتراجعوا واجتلدوا بالنعال، فنزلت فيهم هذه الآية.
وقال قتادة نزلت في رجلين من الأنصار كان بينهما مماراة بحق فقال أحدهما للآخر لآخذن حقي منك عنوة لكثرة عشيرته، فتدافعوا بينهم وتناولوا بعضهم فنزلت.
وكلّ هذا جائز لأن يكون سببا للنزول، لأن الآية عامة في جميع المسلمين وحكمها باق إلى يوم القيامة، وكذلك الآية التي بعدها فهي عامة في كلّ من يقع منه شيء مما نهى عنه فيها وفي كل الآيات لأن العبرة لعموم اللّفظ لا بخصوص السّبب.
أما ما رواه البخاري ومسلم عن أنس قال: قيل للنبي صلى الله عليه وسلم لو أثبت عبد اللّه بن أبي الحديث إلى أن قال فبلغنا أنها نزلت فيهم.
وما روياه عن أسامة بن زيد أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ركب على حمار إلى أن قال: وذلك قبل أن يسلم عبد اللّه بن سلول قبل واقعة بدر فلا يصحان أن يكونا سببا للنزول.
ومما يدل على ضعف القول الأوّل كلمتا قيل وبلغنا المشيرتان إلى توهين الرّواية، وعلى ضعف الثاني أنه قبل إسلام عبد اللّه لأن هذه نزلت بعد إسلامه بكثير وعبد اللّه منافق لم يزل على نفاقه وما كان إسلامه إلا صوريّا ومات على نفاقه كما أشرنا إليه آخر سورة المنافقين، وهو أحقر من أن ينزل اللّه فيه قرآنا أو يسميه مؤمنا، وقد تسامح من عدّ ما جاء في هذين الحديثين سببا للنزول، لأن هذه الآية متأخرة عن حادثة بن سلول المارة في سورة المنافقين فظهر أنها نازلة في طائفتين من المؤمنين وفي اقتران هذه الآية بالشرط إشارة إلى أنه لا ينبغي أن يصدر القتال من المؤمنين لا أن ذلك لم يقع، بل وقع حقيقة، وإن المقاتلة تستعمل مجازا المضاربة ولم تزل تستعمل لغة حتى الآن يقول الرّجل لابنه وغيره لأقتلك وهو يريد أضربك، لا القتل بمعنى الذبح، من لفظ البغاة يطلق على الخارجين على الإمام والحكم فيهم أن يرسل الإمام إليهم من ينصحهم ويكشف شبهتهم ويقف على الأسباب الدّاعية لخروجهم ويدعوهم إلى الطّاعة والانقياد لحكم اللّه، وإذا علم عذرا بخروجهم من ظلم ونحوه وجب على السّلطان إزالته، فإن لم يكن شيء من ذلك ولا شبهة لهم في شيء من أمر الدّنيا أيضا وأصروا على بغيهم بقصد قلب الحكم أو الانحياز لدولة أخرى فله أن يقاتلهم حتى يركنوا إلى الطّاعة ويسلموا تسليما مطلقا.
واعلم أن قتال الخوارج يمتاز على قتال الكفار بثلاثة أمور، أن لا يتبع مدبرهم إذا هرب، ولا يقتل أسيرهم إذا استسلم، ولا يذقف أي لا يجهز على جريحهم بأن يقتل أو يضرب مرة أخرى ليموت بل يترك وشأنه حتى يشفى أو يموت.
ومن جملة ما أدب اللّه به هذه الأمة وهذبها وحسن أخلاقها هو قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ} عند اللّه وبعض خلقه وعدم معرفتكم بالأخيرية لا يكفي {وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ} من حيث لا يعلم السّخر فضيلة المسخور منه، وقد يعرفها غيره، قال عليه السلام إن أحدكم ليرى القذى في عين أخيه ولا يرى الجذع في عينه {وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} لا تطغوا ولا تحضروا أو تعيبوا بعضكم بعضا ولو بالاشارة أو الرّمز، لأن من عاب أخاه فقد عاب نفسه، ولا يخلو أحد من عيب، فكيف يعيب المعيب غيره؟ ورحم اللّه امرأ شغله عيبه عن عيوب النّاس راجع أول السّورة الهمزة في ج 1.
قال ابن عباس جاء ثابت بن قيس بن شماس حتى انتهى إلى حضرة الرّسول، فقال لرجل كان بينهما تفسح، فقال له الرّجل أصبت مجلسا فاجلس، فسئل عنه فقال الرّجل أنا فلان، فقال له ثابت بن فلانة وذكر أما له كان يغيرها في الجاهلية، فاستحى الرّجل ونكس رأسه، فنزل أول هذه الآية وقال أيضا أن حفصة رضي اللّه عنها قالت إلى صفية بنت حيي رضي اللّه عنها، يهودية بنت يهوديين، قال أنس فشكتها إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال لها «إنك لابنة نبي»، يريد اسحق عليه السلام، «وإن عمك لنبي» يريد إسماعيل عليه السلام «وإنك لتحت نبي» يريد نفسه صلى الله عليه وسلم، «فكيف تفتخر عليك؟» فنزل الشّطر الثاني منها.
وقال جبير بن الضّحاك قدم علينا رسول اللّه وليس منا رجل إلّا وله اسمان او ثلاثة، فجعل رسول اللّه يقول يا فلان فيقولون يا رسول اللّه إنه يغضب من هذا الاسم فنزل آخرها وهو قوله تعالى: {وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ} أي لا يدعون أحد أخاه بلقبه الذي يكرهه ولا ينبغي ان يقال لكتابي أسلم يا يهودي يا نصراني، وكذلك غير الكتابي فلا يقال يا مشرك يا مجوسي يا بوذي يا صابئي لقوله تعالى: {بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ} لكل أحد ويكون أشد قبحا شؤما وأعظم وزرا إذا كان {بَعْدَ الْإِيمانِ} لأن المؤمن لا يليق ان يدنس إيمانه بما يؤثمه عند ربه، وإذا وقع منه فعليه ان يسارع للاستغفار والاستسماح ولهذا قال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ} بعد هذا النّهي فيسخر من أخيه أو يسميه بما يكره أو يعيبه او يحقره فيكون مخالفا لأمر اللّه في ذلك، وإذا كان له اسمان فليسمه بأحبهما إليه، ولذلك أتيهم اللّه بقوله: {فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (11) أنفسهم بتعديهم عليها ومخالفتهم أمر اللّه تعالى وتجاوزهم على إخوانهم لأن من يسمى بما يكره فكأنما عيّره وعابه، ومن عيّر أخاه فقد ظلم نفسه واستحق العقاب على او العتاب على ذلك وكذلك كلّ ما يحزن المسلم من قول او فعل وعليه ان يسره فمن حسن إسلام المرء إدخال السّرور على أخيه المؤمن، ومن جملة تأديب اللّه تعالى عباده والسّير بهم إلى المثل الأعلى قوله جل قوله: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} يوقع صاحبه بالسوء ويستحق العقوبة عليه وإذا كان بعضه إثما فعليه ان يتباعد عنه كله لأنه لا يعرف الذي يأثم به منه، وينبغي أن يظن خيرا أو يترك لئلا يقع فيما يكره أو يثلب ولهذا قال تعالى: {وَلا تَجَسَّسُوا} على عيوب النّاس ولا تتبعوا عوراتهم التي سترها اللّه عليهم فتفضحوهم واللّه يحب السّتر، وجاء عنه صلى الله عليه وسلم من كشف ستر أخيه كشف اللّه ستره {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} بما فيه وبما ليس فيه لاطلاق النّص، فليقل أحدكم خيرا أو ليصمت.
وتوجد أشياء مستثناة من هذه الآية سيأتي ذكرها بعد.
ثم إن اللّه تعالى لما مثل لخلقه ما يناله المعتاب من عرض أخيه بقوله: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا} كأنهم قالوا لا يحب أحدنا ذلك، فلما استجوبهم واعترفوا بأن أحدا لا يحب جيفة أخيه بغير ضرورة وأنه لا يمكنهم إنكار كراهيته.
قال تعالى: {فَكَرِهْتُمُوهُ} كما كرهتم هذا فاجتنبوا ذكره بالسوء {وَاتَّقُوا اللَّهَ} فلا تغتابوا أحدا بما يكره، ولا تجسسوا عليه، ولا تظنوا فيه سوء، وإن ما وقع منكم قبل صدور هذا النّهي توبوا منه ولا تعودوا إليه {إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ} على من تاب يقبل توبته ويعفو عنه {رَحِيمٌ} (12) بعباده يبين لهم مضارهم ومنافعهم ويرشدهم إلى ما فيه خيرهم.
قيل إن رجلين من الأصحاب أرسلا سلمان الفارسي إلى حضرة الرّسول ليطلب لهم طعاما فأرسله الرّسول إلى خادمه أسامة بن زيد، فذهب فقال ما عندي؟ فرجع سلمان وأخبرهما فقالا بخل أسامة، ثم أرسلاه لمكان آخر فلم يأتيهما بشيء، فقالا لو بعثناه إلى بئر معونة لغار ماؤها، فانطلقا يتجسسان على أسامة هل عنده شيء أم لا، فلما جاءا إلى رسول اللّه قال: «لهما مالي أرى خضرة اللّحم في أفواهكما؟»
قالا يا رسول اللّه ما تناولنا يومنا هذا لحما، قال: «ظللتما تأكلون لحم سلمان وأسامة»، فأنزل اللّه هذه الآية. وهي عامة لم تقيدها هذه الرّواية ولم يخصصها شيء غيرهما، وباق لحكمها ما بقيت الدّنيا.
وإنما مثل تعالى باللحم وخصه بالأخ ليكون آكد في المنع والكراهية، لأن العدو قد يحمله الحق على أكل لحم عدوه كما فعلت هند بحمزة رضي اللّه عنه، ويكون اللّحم على أكل لحم عدوه كما فعلت هند بحمزة رضي اللّه عنه، ويكون اللّحم ميتا لأنه أبلغ في الزجر لأن النّفس مهما كانت مضطرة لا تميل إليه بخلاف المذبوح.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: «إياكم والظّن، لأن الظّن أكذب الحديث، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد اللّه إخوانا كما أمركم المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره، التقوى هاهنا التقوى هاهنا التقوى هاهنا (كررها صلى الله عليه وسلم ثلاثا وفي كلّ منها يشير إلى صدره الشّريف، يؤمن بذلك إلى التقوى بالقلب لا بشقشقة اللّسان، لأن اللّه ينظر إلى القلب لا إلى الصّورة) بحسب امرئ من الشّر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام: دمه وعرضه وماله، إن اللّه لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم وأعمالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم».
واعلم أن الحكم الشّرعي في هذا هو أنه يحرم على الرّجل أن يغتاب أخاه أو يسمع إلى حديثه بقصد التجسس عليه وأن يظن به سوءا، ومن أكبر الكبائر وأفظعها التجسس على المسلمين وإفشاء أسرارهم الحربية إلى أعدائهم أو إلى من يوصل إليهم، ويسن للرجل أن يستر ما يراه من عيوب إخوانه روى مسلم عن أبي هريرة أن النّبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يستر عبد عبدا في الدّنيا إلّا ستر اللّه عليه يوم القيامة».
وروي عنه قال: «أتدرون ما الغيبة؟ قلت اللّه ورسوله أعلم، قال ذكرك أخاك بما يكره، قلت وإن كان في أخي ما أقول؟ قال إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فقد بهته».
وأخرج أبو داود والترمذي عن عائشة قالت قلت للنبي صلى الله عليه وسلم حسبك من صفية كذا وكذا تعني قصرها، فقال: «لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته».
فقال ما أجب أني حكيت له إنسانا ولي كذا وكذا، ومعنى حكى شبّه الشّيء بغيره فيما يمدح أو يذم، والظّاهر أن المراد هنا الذم.
وأخرج أبو داود عن أنس قال قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم ولحومهم وصدورهم، فقلت من هؤلاء يا جبريل؟ قال هؤلاء الّذين يأكلون لحوم النّاس ويقعون في أعراضهم».
هذا، وما ورد: احترسوا على أموالكم بسوء الظّن، وإن سوء الظّن من أزكى الفطن، هذا مما يعود لنفس الظّان، لأن من يريد أن يدين أحدا دينا أو يزوجه بنتا أو يعقد معه عقدا فله التبصر بحاله.
قال تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ} الآية الخامسة من سورة النساء المارة، فراجعها ففيها ما تريده في هذا البحث، ومن أين يعرف السّفيه من غيره إذا لم يحصل له الظّن الموجب للتحقيق عن حاله فهذا من الظّن الجائز حفظا لنفس الرّجل وماله من أن يقع بغير موضعه، وبنت الرّجل من ماله ووضعها عند من يكرمها خير من وضع المال عند من يرده، وقد ورد: «النكاح رق فلينظر أحدكم أين يضع كريمته».